عبد النبي النديم يكتب: «الفيكس» جريمة فى حق الشوارع.. وثقافة زراعة الأشجار

عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

الزراعة مهنة إرتبطت إرتباطا وثيقا بالحضارة المصرية، وذلك لموقعها المتميز، وشريان الحياة نهر النيل، الذى جذب المصريين إلى ضفافه منذ بداية التاريخ، ومناخها المعتدل طوال العام، فأبدع المصريون فى مختلف أنواع المحاصيل والفاكهة، وأصبحت مصر سلة غلال العالم، وقام المصرى القديم بتسجيل  انجازاته في الزراعة على جدران المعابد والمقابر، وعلى مر العصور كانت الأرض المصرية الخصبة مصدرا للحياة فى مختلف أنحاء العالم، وجعلتها مطمعا لكل الإمبراطوريات، لأهميتها الزراعية، فمصر فى الأساس زراعية.. كل مقومات الزراعة متوفرة بها، والخبرات الكبيرة المتراكمة جيلا بعد جيل موجودة في أحضانها.


لكن خلال العقود الماضية، رغم جهود الدولة والحكومات المتعاقبة، للعمل على زيادة الرقعة الزراعية إلا أن هناك زحف جائر عليها، نتيجة الزيادة السكانية التي تلتهم كل زيادة فى الإنتاج، لأسباب تكاد تكون معلومة للجميع، ولكن ليس مجالنا الآن للحديث عن عقبات تحقيق الإكتفاء الذاتى من الزراعة المحلية، خاصة فى المحاصيل الإستراتيجية، ولكن نتخذ من هذه الميزة التى وهبها الله لمصر مدخلا لموضوع آخر، نستغل فيه خبرات المصريين فى الزراعة، بتطبيق بعض الأفكار التى نطرحها، علها تكون سببا في تغيير الثقافة المصرية فى التعامل مع الزراعة بأساليبها الحديثة، فزراعة النباتات والأشجار قد تكون داخل منزلك، أو فى الحديقة الملحقة به، أو الشارع المطل عليه، أو على حدود المدينة التى تقطن فيها، أو من خلال مزارع محيطة بالمدن تكون مصدرا للخضروات والفاكهة.


وحاليا الثقافة المصرية فى التعامل مع الأشجار تتسم بالإهمال واللامبالاة خاصة مع الأشجار التى تزين الشوارع، في محاولة لخلق بعض من المساحات الخضراء، وآن الآوان لهذه الثقافة أن تتغير، خاصة مع المرحلة المحورية التى تمر بها البلاد، من تغيير شامل في مختلف المجالات، من مشروعات عملاقة يتم إنشائها فى كل مكان على أرض مصر، وفي مقدمتها العاصمة الإدارية الجديدة، التى على وشك الإنتهاء من مختلف مبانيها، وكذلك مشروع «حياة كريمة» فى مختلف القرى المصرية، لا بد أن يتبعه بالتوازى تغيير فى ثقافة التعامل مع المساحات الخضراء، فى الحدائق العامة والشوارع، ولا بد من وضع سياسيات مختلفة للتعامل مع زراعة الأشجار فى شوراع المدن الجديدة، من حيث نوعية الأشجار التى يتم زراعتها، لتحقيق أقصى إستفادة ممكنة من هذه المساحات الخضراء، ولتكن البداية مع العاصمة الإدارية الجديدة وكذلك مشروعات «حياة كريمة» التي يتم إنشاءها فى القرى في مختلف المحافظات.


وقبل أن نبدأ فى كيفية تغيير ثقافة التعامل مع أشجار الشوارع والحدائق العامة، نأخذ مثالا رأئعا يمكن ان يكون بداية لتنفيذه بالمدن المصرية الجديدة، وهى مدينة أشبيلية الأسبانية، حيث قاموا بزراعة أشجار البرتقال في شوارع المدينة، ووصل عدد الأشجار إلى 40 ألف شجرة، تنتج سنويا حوالي مليون كيلو من فاكهة البرتقال, ويقوم مجلس مدينة أشبيلية برعاية هذه الأشجار، ويقوم بجمع المحصول في فصل الربيع، ويبيعه ويتم إنتاج أجود أنواع المربات منه، وتصديره لإنجلترا نظرا لإقبالهم الشديد علي هذه الفاكهة، إلى أن أصبحت البرتقالة ثمرة رمزية في إسبانيا.


فأشجار البرتقال خلقت مساحة خضراء تضيف نضارة على منظر الشوارع بأشبيلية، وتوفر الظل في جميع فصول السنة وبالإضافة إلى رائحة أزهاره المميزة جدا فصل الربيع، التي يستخدموها ايضا لإنتاج أغلي العطور, التي تعد مضاد طبيعي للإكتئاب، الأمر الذى يملأ الشوارع بالبهجة والسرور ويضيف جمالا على فوق الجمال بشوارع المدينة.


من هذا المثال وغيره من المدن الأوروبية، وعلى الرغم من الفارق الكبير فى ثقافة التعامل مع أشجار الشوارع والحدائق العامة، فى شوارع المدن الأوروبية عنها في المدن المصرية، إلا أن هناك فرصة سانحة أن تتحول ثقافة المجتمع فى التعامل مع المساحات الخضراء بالشوارع، ونستغل فرصة التغيير الحالية فى المجتمع وطفرة المشروعات العملاقة فى الطرق والمدن الجديدة لوضع استراتيجية جديدة لها، من إختيار نوعيات من الأشجار تحقق الدولة منها أقصى إستفادة ممكنة، وليس الظل والخضرة فقط، فيجب عندما نزرع يجب أن تكون هناك دراسة لتحقيق الإستفادة من الأشجار المثمرة فى شوارعنا، سواء كانت أشجار فاكهة أو أشجار لإنتاج الأخشاب، وأن نتخلى عن الإعتماد على أشجار «الفيكس» التى لا طائل من ورائها بل تكون مرتعا للحشرات الطائرة، وإستبدالها بنوعية مختلفة من الأشجار تكون صديقة للبيئة، ومنتجة وتخلق المساحات الخضراء المطلوبة فى المدن الجديدة.


وحسنا فعل القائمين على إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، عندما تبنوا إستراتيجية زراعة أشجار الغابات الاستوائية الأفريقية بالعاصمة الإدارية الجديدة، بجمع شتلات الأشجار المستوردة وتم زراعتها داخل مصر، في صوب لأشجار المهوجني والخشبية والتي تعد بحق إنطلاقة كبيرة لنشر زراعة أشجار الغابات بمصر لأول بتكليف من الرئيس عبدالفتاح السيسي بضرورة زراعة أشجار أفريقية عالية تستطيع أن تحمى المكان من العواصف والأتربة، وحماية الطرق والأسفلت، كما تخفف هذه الأشجار من درجات الحرارة، وتعمل كمصدات للرياح، بالإضافة إلى الأهمية الإقتصادية الكبيرة من زراعة هذه الأشجار، فأشجار المهوجنى الأفريقي تعد المنتج الأساسي لأقيم أنواع الأخشاب التي تستخدم في صناعة الأثاث والموبيليا والباركيه والسفن، ويصل ثمن المتر فيها لـ 28 ألف جنيه، والشجرة الواحدة تنتج من «2 لـ 4» متر مكعب خشب جاهز التصنيع بعد نحو 15 عامًا من زراعتها، كما أنها تعد ثورة قومية للبلاد.


من هذا المثال الرائع، والإنطلاقة المتميزة لتغيير ثقافة التعامل أشجار الشوارع بزراعة أشجار الغابات على حدود العاصمة الادراية الجديدة، يجب أن تستمر هذه الإستراتيجية، بإستبدال ثقافة أشجار الفيكس بأشجار الغابات الافريقية والأشجار المثمرة، مثل أشجار برتقال أشبيلية، فليس البرتقال فقط قابل للزراعة فى الحدائق العامة والشوارع، فمن الممكن أن يتم زراعة أشجار مثل المانجو والجوافة أو أشجار النخيل، على الرغم من عدم نجاح التجربة من قبل، وأشجار اللوز والكرز وعين الجمل والفستق.. وغيرها من الأشجار التى ستصبح شجرة منتجة وليس الهدف منها الظل والمساحة الخضراء فقط، ومن يدعي أن زراعة أشجار الفواكه بالمدن لا تتناسب مع ثقافة المصريين، فهذا من الممكن أن يكون فى الشوارع والمدن القديمة، بالقاهرة التاريخية، ولكن مع المشروعات الجديدة التى يتم أنشائها والمدن الجديدة التى بدأت فى إستقبال سكانها، أعتقد الوضع سيختلف، من خلال التوعية بأهمية هذه الأشجار بالمسبة لهم فى المقام الأول والنظر الجمالى الذى ستكون عليه الشوراع، وثانيا إنتاجيا بالاستفادة من ثمار هذه الأشجار التى ستوفر إستيراد هذه الثمار من الخارج بالعملة الصعبة، لتصبح زراعة أشجار مثمرة ذات جدوى اقتصادية ومنفعة للمواطنين.


فنحن لا نبحث عن المدينة الفاضلة، ولست رومانسيا فى المطالبة بتغيير ثقافة المواطن المصرى فى تعامله مع أشجار الحدائق والشوارع، وأعلم أن هناك من يقولون أن ثمار فاكهة أشجار الشوارع ستمتص وتختزن عوادم السيارات من أكاسيد الكربون والرصاص، وتجعل هذه الثمار غير صالحة للاستهلاك الآدمى أو الحيوانى حتى، ولكن أذا تم دراسة هذه المبادرة جيدا سيتم إختيار نوعية الأشجار المثمرة التى تلائم الشوراع التى سيتم زراعتها بها، فالأشجار التى سيتم زراعتها على الطرق السريعة، غير التى سيتم زراعتها في الشوراع الداخلية غير الأشجار التى سيتم زراعتها بالحدائق العامة، فهناك الثمار ذات القشرة الخشبية، وهناك ثمار أخرى من الممكن ان تؤثر عليها بالفعل العوامل المحيطة بها، والحل فى دراسة نوعية الاشجار المناسبة فى المكان المناسب، بالاضافة إلى أن سكان العاصمة الادارية الجديدة وكذلك المدن الجديدة سيكونون على قدر من الثقافة للتعامل مع هذه الاشجار.


فما يتم حتى الآن من زراعة أشجار «الفيكس» دائمة الخضرة الممتلئة بها شوارع القاهرة، تعتبر «جريمة» فى حق شوارع القاهرة والمدن حتى المقابر التى يتم زراعة أشجار الفيكس بشوراعها، التي تتسبب فى نشر الحشرات الضارة التى امتدت للمحاصيل الزراعية، كما أن جذورها دمرت شبكات الصرف الصحى، دون أدنى فائدة اقتصادية أو جمالية أو بيئية، على المجتمع حتى أن  أخشابها لا تصلح لإنتاج الفحم.


فتخصيص مناطق خضراء فى المدن الجديدة مثل القاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية والشيخ زايد وغيرها من المدن فى مختلف محافظات مصر، أصبح أمرا ضرورويا، ومن قبيل التخطيط الجيد داخل هذه المناطق، فالمساحات المخصصة للزراعة يوفر بيئة زراعية مناسبة لزراعة الأشجار المثمرة، وإن فكرة زراعة الأشجار المثمرة فى شوارع مصر على الرغم من أنها لا تتناسب مع الثقافة العامة الحالية، خاصة لدى الأطفال، فلن يتركوا الأشجار تنمو فى سلام حتى تصل إلى مرحلة الطرح وخروج الثمار، وكذلك الخلافات بين المواطنين على ثمار الأشجار، إلا أن الوضع سيكون مختلف فى المدن الجديدة وبداية قوية لنشر الوعى وثقافة تحقيق عوائد اقتصادية من أشجار الشوارع، فكل مواطن يجب أن يكون لدية الوعى الكامل بأهمية وجود مساحات خضراء تحيط بمنزله، وتزين شارعه، وفرحته بأول ثمار هذه الأشجار ستكون دافعا على نجاح هذه المبادرة لزراعة الأشجار المثمرة فى حدائق وشوراع المدن، ومحيط المبانى الحكومية بها، وكذلك فى القرى، فالمدن المصرية لا تقل عن مثيلاتها فى الدول الأوروبية لتحقيق عائد اقتصادى من مثل هذه المبادرات، وتكون فى النهاية صديقة للبيئة، ومنقية للجو من الملوثات، وتوفير مساحة خضراء راحة للعيون فى كل شوراع مدن وقرى مصر.


فيجب أن نحطم شماعة «ثقافة المصريين» فتنفيذ الفكرة فى الوقت الحالى فى المدن الجديدة متاحة، خاصة بعد توجيهات الرئيس السيسي باستغلال المياه فى زراعة الأشجار المثمرة وليس الزينة، لأهميتها الاقتصادية فى الوقت الحالى لأى مشروع تقوم به الدولة بعد الإصلاح الاقتصادى، وتوحيد القرار بكافة مؤسسات الدولة، فكل مشروع وله تكلفته، ولكن الأهم من التكلفة عائداته، واعتقد ان عائد الاشجار الثمرة أو الخشبية سيكون اقتصاديا كبيرا، ولنبحث عن كيفية تنفيذ المشروع بعيد عن مدى ملائمته لثقافة المصريين، فمع تغير المناخ فى مصر بشكل لم يسبق له مثيل، ومع قلة المياه بسبب زيادة التعداد السكاني، يستوجب علينا الحفاظ على كل شجرة فى مصر ومضاعفة أعدادها لمواجهة التغيرات البيئة خلال السنوات القادمة.